هابل نظر بعيدًا جدًا... وما رآه أرعب العلماء! رحلة إلى حافة الزمن لتحدي فهمنا للكون صدمة في أعماق الكون

في ساحة الاكتشافات الكونية، حيث يسود الصمت المهيب والظلام الذي لا ينتهي، تحدث أحيانًا لحظات من الصفاء التي تهز أركان العلم هزًا. هذه ليست مجرد نظريات أو توقعات، بل هي وقائع ملموسة تصلنا عبر عدسات مراصدنا العملاقة. في السنوات القليلة الماضية، وجد علماء الفلك أنفسهم أمام اكتشافين مذهلين، ليس فقط لأنهما وسعا من حدود معرفتنا، بل لأنهما هدما توقعات راسخة ووضعا نماذجنا الكونية على المحك. بفضل تكنولوجيا رصد غير مسبوقة، تمكنا من السفر بالزمن إلى الوراء، والنظر إلى فجر الكون نفسه، وتعلّمنا شيئًا قد يغيّر فهمنا للأبد لكيفية نشوء المجرات والنجوم. هذه القصة ليست عن مجرد صور جميلة من الفضاء؛ إنها قورة عن ألغاز عميقة، وعلماء كادوا يبصقون قهوتهم من الدهشة، وعن كونٍ يرفض أن يكون كما نعتقد.
البطل الجديد تلسكوب جيمس ويب ينطلق إلى الفضاء
لا يمكن فهم حجم الصدمة دون تقديم البطل الرئيسي في هذه الدراما الكونية: تلسكوب جيمس ويب الفضائي (JWST). إذا كان تلسكوب هابل هو النجم المخضرم الذي قدم لنا "حقول الرؤية العميقة" الشهيرة وغيرها من الصور التي غيرت ثقافتنا البصرية، فإن جيمس ويب هو الجيل الجديد، الأكثر قوة وطموحًا. بعد عقود من التخطيط والتطوير بتكلفة بلغت 10 مليارات دولار، أُطلق ويب في ديسمبر 2021 ليصل إلى نقطة lagrangian point L2، على بعد 1.5 مليون كيلومتر من الأرض. في هذا الموقع، يحجب التلسكوب نفسه بأقمشة شمسية ضخمة ليحافظ على برودته القصوى، وهي ضرورية لعملية الرصد التي يقوم بها. قوة ويب الهائلة تنبع من مرآته الأولية الذهبية الشهيرة، المكونة من 18 قطعة سداسية، يبلغ قطرها الإجمالي 6.5 متر – أي أكبر بست مرات من مرآة هابل. الأهم من الحجم هو التقنية: ويب مصمم لرصد الكون primarily في نطاق الأشعة تحت الحمراء. لماذا هذا مهم؟ لأن الكون يتمدد، والضوء القادم من المجرات البعيدة جدًا يتمدد هو الآخر، فيتحول من الأطوال الموجية المرئية إلى الأطوال الموجية تحت الحمراء – وهي ظاهرة تسمى "الانزياح الأحمر" (Redshift). لرؤية هذه المجرات "الحمراء" والمخفية، نحتاج إلى عين ترى في الأشعة تحت الحمراء. ويب هو هذه العين. إنه آلة زمن حقيقية، قادرة على رصد الضوء الذي سافر لأكثر من 13.5 مليار سنة ليصل إلينا، مما يمنحنا لمحة عن الكون عندما كان طفلاً.
نظرة خاطفة إلى ألبوم طفولة الكون في يوليو 2022، كشفت ناسا وغيرها من وكالات الفضاء أول صورة ملونة كاملة من جيمس ويب. لم تكن مجرد صورة جميلة؛ لقد كانت بيانًا بقدرات هذا التلسكوب العملاق. الصورة، التي التقطت للحقل العميق SMACS 0723، كشفت عن آلاف المجرات في بقعة من السماء لا تزيد عن حجم حبة رمل ممدودة على طول الذراع. كل نقطة ضوء، كل هالة غامضة، كانت مجرة كاملة، كل منها تحوي مليارات النجوم.
لكن الجوهر الحقيقي لم يكن في العدد، بل في العمر. أقدم ضوء في هذه الصورة يعود إلى أكثر من 13 مليار سنة في الماضي، إلى حقبة كانت فيها الكون بعمر 600 مليون سنة فقط بعد الانفجار العظيم. تخيل أننا حصلنا على لقطة للمجرة وهي في مرحلة "الحضانة الكونية". كان هذا الإنجاز مذهلاً بحد ذاته، وأكد أن التلسكوب يعمل كما هو مخطط له. لكن العلماء كانوا يعلمون أن هذه الصورة الجميلة هي مجرد البداية، وأن التحليل الأعمق للبيانات سيكشف الأسرار الحقيقية. ولم يخيب ويب ظنهم. المفاجأة التي هزت الفريق المجرات المستحيلة بدأت الصدمة الحقيقية عندما شرع فريق بقيادة عالم الفلك إيفو لابا (Ivo Labbe) من جامعة سوينبرن للتكنولوجيا في أستراليا في تحليل البيانات الأولى من ويب. كانوا يتوقعون رؤية ما تتوقعه النماذج الكونية السائدة: مجرات صغيرة، شابة، وفوضوية، تكونت في الكون المبكر. هذه المجرات "البدائية" يجب أن تكون صغيرة الحجم، قليلة النجوم، وتشكلت بشكل بطيء وتدريجي على مدى مليارات السنين. لكن ما ظهر على شاشات حواسيبهم كان مختلفًا تمامًا. وجد الفريق مجرات ظهرت كـ "نقاط حمراء" صغيرة في الصور، ولكن عند تحليل طيف الضوء الصادر عنها (لقياس الانزياح الأحمر وبالتالي المسافة والعمر)، حصلوا على رقمين صادمين: العمر: 13 مليار سنة. الكتلة: تعادل كتلة مجرة درب التبانة الحالية، أي ما يعادل 100 مليار شمس مثل شمسنا! هنا جاءت اللحظة الدراماتيكية التي وصفها لابا لاحقًا: "كاد أن يبصق قهوته من الدهشة". كيف يمكن لمجرة أن تصبح بهذا الضخامة وبهذا العدد الهائل من النجوم في فترة قصيرة نسبيًا (حوالي 500-700 مليون سنة) بعد الانفجار العظيم؟ وفقًا للنماذج الحالية، لم يكن هناك وقت كافٍ للمادة المظلمة أن تتكتل لتشكل هالات كبيرة enough لاستيعاب مجرات بهذا الحجم. لم تكن هناك وقت كافٍ للغاز أن يبرد، وينهار، ويتحول إلى نجوم بهذه الوفرة والسرعة.
لماذا هذا الاكتشاف "مُرعب" للعلماء؟ تحدّي النماذج الأساسية لفهم سبب ارتعاش المجتمع العلمي، يجب الغوص قليلاً في نظرية تكون المجرات. يفترض "النموذج الكوني القياسي" (Lambda-CDM model)، الذي يصف تطور الكون، أن كل شيء بدأ بانفجار عظيم، تبعته فترة تسمى "العصور المظلمة" حيث كان الكون مملوءًا بالغازات الساخنة دون نجوم. ثم، بدأت جزيئات المادة المظلمة – المادة غير المرئية التي تشكل معظم كتلة الكون – في التجمع تحت تأثير الجاذبية، مشكلة هالات غير مرئية. جذبت هذه الهالات غاز الهيدروجين والهيليوم، الذي برد تدريجيًا وتكثف في مركز الهالة، مشكلًا eventually النجوم والمجرات الأولى.
هذه العملية، حسب النموذج، كانت تدريجية. المجرات الصغيرة تشكلت أولاً، ثم اندمجت معًا على مدى مليارات السنين لتبني المجرات الضخمة التي نراها اليوم مثل درب التبانة. لكن مجرات "جيمس ويب" الضخمة المبكرة تقول شيئًا مختلفًا: يبدو أن بعض المجرات اختصرت هذه الخطوة. لقد كانت "ناضجة" منذ البداية، وكأنها ولدت بالغة. إنها مثل العثور على هيكل عظمي لإنسان بالغ في طبقات صخرية تعود إلى عصر الديناصورات – إنه يقلب التسلسل الزمني المتوقع رأسًا على عقب. هذا التحدي له عواقب عميقة: تكون المجرات: قد تكون هناك آلية أسرع وأكثر فعالية لتشكل النجوم والمجرات لا نفهمها بعد. ربما كانت الظروف في الكون المبكر مختلفة جذريًا، allowing لانهيار سريع ومباشر للغيوم الغازية إلى مجرات ضخمة دون المرور بمرحلة التصادم والدمج الطويلة.
طبيعة المادة المظلمة: قد تكون طبيعة المادة المظلمة نفسها مختلفة عن افتراضاتنا. ربما تكون نوعًا من المادة المظلمة "الدافئة" أو "الساخنة" التي تتحرك بسرعات أعلى، مما يسمح بتكون هياكل كبيرة في وقت أبكر. علم الكونيات ككل: إذا كانت أقدم المجرات التي نراها لا تتطابق مع توقعات النموذج القياسي، فقد يعني ذلك أننا بحاجة إلى مراجعة بعض الثوابت الأساسية، مثل معدل تمدد الكون أو طبيعة الطاقة المظلمة. التفسيرات البديلة – هل يمكن أن نكون مخطئين؟ المنهج العلمي قائم على الشك والتدقيق. قبل الإعلان عن ثورة كوزمولوجية، يبحث العلماء عن تفسيرات بديلة داخل الإطار الحالي. وهنا تبرز بعض الفرضيات المثيرة: الثقوب السوداء فائقة الكتلة: ماذا لو أن الضوء الساطع الذي رآه "ويب" لا يصدر عن النجوم في المجرة، بل عن قرص التنامي (accretion disk) الهائل حول ثقب أسود فائق الكتلة في مركزها؟ عندما تبتلع الثقوب السوداء المادة، تسخن وتصدر كميات هائلة من الإشعاع يمكن أن تضيء بشكل أكثر سطوعًا من جميع نجوم المجرة مجتمعة. إذا كان هذا صحيحًا، فقد لا تكون هذه المجرات "مليئة بالنجوم" بقدر ما هي "مضيفة لوحوش كونية". لكن هذا يطرح لغزًا آخر: كيف نمت هذه الثقوب السوداء إلى هذه الضخامة في وقت قياسي؟
تشكل نجوم مختلف: ربما تكون عملية تشكل النجوم في تلك المجرات كانت فعالة بشكل استثنائي، حيث تحولت كل الغاز المتاح إلى نجوم دفعة واحدة، دون أي فقدان. هذا يتطلب شروطًا فيزيائية فريدة لم نرها في الكون القريب. أخطاء في تقدير الكتلة أو المسافة: يحاول العلماء حاليًا استخدام طرق أخرى (مثل قياس الانزياح الأحمر بدقة أعلى) لتأكيد مسافة وكتلة هذه المجرات. إذا تبين أنها أقرب أو أقل كتلة، فسوف يحل اللغز. لكن البيانات الأولية من "ويب" قوية جدًا وتشير بقوة إلى أن التقديرات صحيحة. الاكتشاف الثاني الصادم ومضة من فجر الزمن لكن قصة الصدمة لا تنتهي عند مجرات "جيمس ويب". في نفس الفترة تقريبًا، أعلن فريق منفصل عن اكتشاف مذهل آخر جاء من مصدر متواضع بشكل لا يصدق: ليس تلسكوبًا فضائيًا بتكلفة مليارات الدولارات، بل هوائي راديوي صغير بحجم الثلاجة بتكلفة أقل من 5 ملايين دولار! هذا الهوائي، جزء من مشروع EDGES، رصد إشارة خافتة جدًا تعود إلى أولى النجوم التي تشكلت في الكون، قبل حوالي 180 مليون سنة بعد الانفجار العظيم. الإشارة كانت غريبة. أظهرت أن الغاز في ذلك الوقت كان أبرد بكثير مما توقعت النماذج. التفسير الأكثر إثارة الذي قُدّم هو أن هذا التبريد الإضافي قد يكون تفاعل بين المادة العادية والمادة المظلمة. إذا تأكد هذا، فسيكون أول دليل تجريبي مباشر على طبيعة المادة المظلمة، وهو اكتشاف قد يكون أكثر أهمية من اكتشاف مجرات "ويب" نفسها، لأنه سيفتح نافذة على 95% من الكون التي لا نراها هذان الاكتشافان معًا المجرات المستحيلة والإشارة الباردة يرسمان صورة لكون مبكر كان أكثر نشاطًا وتعقيدًا وتطرفًا مما كنا نحلم به. كونٌ أكثر غرابة مما نتخيل والرحلة لم تنتهِ ما نراه اليوم هو مشهد علمي حي.
"جيمس ويب" لم يحل الألغاز؛ بل فتح صندوق باندورا الكوني، مثيرًا أسئلة أكثر مما أجاب. المجرات "المستحيلة" ليست نهاية العالم للنماذج العلمية، بل هي البداية المثيرة لمرحلة جديدة من الاكتشاف. هذا هو جوهر العلم: ليس مجموعة من الحقائق الثابتة، بل عملية مستمرة من التحدي والمراجعة والتطوير. الخطوة التالية هي التأكد. سيستخدم العلماء ويب لرصد هذه المجرات بطيف أكثر دقة، والبحث عن مجرات مماثلة في مناطق أخرى من السماء. المراصد الأرضية القوية ستدعم هذه الجهود. قد يستغرق الأمر سنة أو أكثر للحصول على إجابات قاطعة. لكن الرسالة واضحة: الكون لا يزال مليئًا بالمفاجآت. إنه مكان أكثر غرابة، عنفًا، وإبداعًا من أي خيال. كما قال عالم الفلك كارل ساغان ذات مرة: "الكون لا يجب أن يكون متناغمًا مع توقعات الإنسان". ها هو "جيمس ويب" يذكرنا بهذه الحقيقة بقوة مذهلة. الرحلة إلى حافة الزمن لم تزدنا إلا تواضعًا وشغفًا، وهي رحلة لم تبدأ إلا للتو. لأن أفضل الصور والأعظم اكتشافًا لم تأتِ بعد.
المقال التالي
لا تعليقات
إضافة تعليق
رابط التعليق